الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والخطاب في ألم تعلم قيل: للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل مكلف، وقيل: للمجترىء على السرقة وغيرها من المحظورات.فالمعنى: ألم تعلم أنّك عاجز عن الخروج عن ملكي، هاربًا مني ومن عذابي، فلم اجترأت على ما منعتك منه؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول، والمعنى: ألم تعلموا أنه له ملك السموات والأرض، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه، ويترك القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه.قال الزمخشري: من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرّين والتائبين انتهى.وفيه دسيسة الاعتزال.وقد يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا نسقطه عن المسلم لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة {ولكم في القصاص حياة} وقال ابن عباس والضحاك: يعذب من يشاء، أي من مات على كفره، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره.وقيل: ذلك في الدنيا، يعذب من يشاء في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة.{والله على كل شيء قدير} كثيرًا ما يعقب هذه الجملة ما دل على التصرّف التام، والملك والخلق والاختراع، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك. اهـ.
.قال أبو السعود: قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} فإن عُنوانَ الألوهية مدارُ أحكامِ ملكوتِهما، والجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدّم، ومُلكُ السموات والأرض مبتدأ، والجملة خبرٌ لأنّ، وهي مع ما في حيِّزِها سادّةٌ مَسدَّ مفعوليْ «تعلم» عند الجمهور، وما فيه من تكريرِ الإسنادِ لتقويةِ الحُكْم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين. وقيل: لكل أحدٍ صالحٍ للخطاب، والاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم، والمرادُ به الاستشهادُ بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرةِ على أبلغ وجهٍ وأتمِّه، أي ألم تعلم أن الله له السلطانُ القاهر والاستيلاء الباهرُ المستلزِمانِ للقدرة التامة على التصرُّفِ الكليِّ فيهما وفيما فيهما إيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً إلى غير ذلك حسْبما تقتضيه مشيئتُه {يُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذِّبه {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفرَ له من غير نِدَ يساهمُه ولا ضدَ يزاحمُه، وتقديمُ التعذيبِ على المغفرة لمراعاةِ ما بين سببيهما من الترتيب، والجملة إما تقريرٌ لكون ملكوتِ السموات والأرضِ له سبحانه، أو خبرٌ آخرُ لأن. {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على ما ذَكَر من التعذيب والمغفرة، والإظهارُ في موقع الإضمارِ لما مرَّ مرارًا والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبلها. اهـ..قال الألوسي: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي: «اتصال الحجاج والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد».وقال شيخ الإسلام: المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادًا وإعدامًا إحياءًا وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته، والجار والمجرور خبر مقدم، و{مُلْكُ السموات} مبتدأ، والجملة خبر {إن} وهي مع ما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي {تَعْلَمْ} عند الجمهور؛ وتكرير الإسناد لتقوية الحكم.وقوله تعالى: {يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} إما تقرير لكون ملكوت السموات والأرض له سبحانه، وإما خبر آخر لأن وكان الظاهر لحديث «سبقت رحمتي غضبي» تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية أولًا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق، أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى، والأول: في الدنيا، والثاني: في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود، أو لأن المقام مقام الوعيد، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور، وفي التعذيب إباء بين {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ووجه الإظهار كالنهار. اهـ..قال البيضاوي: قدم التعذيب على المغفرة إيتاء على ترتيب ما سبق، أو لأن استحقاق التعذيب مقدم أو لأن المراد به القطع وهو في الدنيا. اهـ..من فوائد الزمخشري في الآيات: قال رحمه الله:.[سورة المائدة: الآيات 27- 32] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ}.هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل، أوحى اللَّه إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها «إقليما» فحسد عليها أخاه وسخط. فقال لهما آدم: قرّبا قربانا، فمن أيكما تقبل زوّجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسدا وسخطا، وتوعده بالقتل. وقيل: هما رجلان من بنى إسرائيل بِالْحَقِّ تلاوة ملتبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأوّلين، أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويبغون عليه.أو اتل عليهم وأنت محق صادق. وإِذْ قَرَّبا نصب بالنبإ، أى قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت.ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أى اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.والقربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللَّه من نسيكة أو صدقة، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى أى يعطى.يقال: قرّب صدقة وتقرّب بها، لأن تقرّب مطاوع قرّب: قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت: كيف كان قوله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ جوابا لقوله: {لَأَقْتُلَنَّكَ}؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى اللَّه التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ اللَّه تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد اللَّه: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إنى أسمع اللَّه يقول: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. {ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من اللَّه لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت. قاله مجاهد وغيره {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت: كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت: المراد بمثل إثمى على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره.ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم» على أنّ البادي عليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه، لأنه مكافئ مدافع عن عرضه. ألا ترى إلى قوله: «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم. فإن قلت: فحين كف هابيل قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت:هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر، كأنه قال: إنى أريد أن تبوء بمثل إثمى لو بسطت يدي إليك. وقيل {بِإِثْمِي} بإثم قتلى {وَإِثْمِكَ} الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار؟ قلت: كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد.ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ} وإذا جاز أن يريده اللَّه، جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن. والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب. فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ... ما أَنَا بِباسِطٍ}؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: {فطاوعت}. وفيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك: حفظت لزيد ماله. وقيل: قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا} روى أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بنى آدم. ولما قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث اللَّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة {قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ} ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. وروى أنّ آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. {لِيُرِيَهُ} ليريه اللَّه. أو ليريه الغراب، أى ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز {سَوْأَةَ أَخِيهِ} عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة: الفضيحة لقبحها. قال:أى للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها {فَأُوارِيَ} بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على: فأنا أوارى. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه، وتلمذه للغراب، واسوداد لونه وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك وبعلته. وقيل: أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا. ومنه قوله: كأنك إذا قلت: من أجلك فعلت كذا، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته، ويدل عليه قولهم: من جراك فعلته، أى من أن جررته بمعنى جنيته. وذلك إشارة إلى القتل المذكور، أى من أن جنى ذلك القتل الكتب وجرّه كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و«من» لابتداء الغاية، أى ابتدأ والكتب نشأ من أجل ذلك. ويقال: فعلت كذا لأجل كذا. وقد يقال: أجل كذا، بحذف الجار وإيصال الفعل قال: أجل أنّ اللَّه قد فضلكم. وقرئ: من اجل ذلك، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها. وقرأ أبو جعفر: من إجل ذلك، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بغير قتل نفس، لا على وجه الاقتصاص أَوْ فَسادٍ عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد فِي الْأَرْضِ وهو الشرك.وقيل: قطع الطريق {وَمَنْ أَحْياها} ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك. فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت:لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على اللَّه وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على اللَّه وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذًا بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأنّ المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعًا عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم، وغضب اللَّه، والعذاب العظيم. ولو قتل الناس جميعًا لم يزد على ذلك. وعن الحسن: يا ابن آدم، أرأيت لو قتلت الناس جميعًا أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازى ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سوّلته لك نفسك والشيطان، فكذلك إذا قتلت واحدًا بَعْدَ ذلِكَ بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات {لَمُسْرِفُونَ} يعنى في القتل لا يبالون بعظمته.
|